النكبة في ذكريات طفولة إسرائيليّة | ترجمة

العصابات الصهيونيّة تحتلّ قرية ترشيحا، 1948.

 

العنوان الأصليّ: Their blood cries out — Israeli-American’s memoir faces the Nakba.

المصدر: Mondoweiss.

الكاتب: ستيف فرانس.

 


 

تحكي السيرة الذاتيّة «تلمّس الأوطان» (Tracing Homelands) الصادرة عام 2023، بوضوح عن الأرض النفسيّة غير المستقرّة تحت أقدام المستوطنين في ’الأرض الموعودة‘، الأرض الّتي جرى، ولا زال يجري انتزاعها بقسوة من سكّانها الأصليّين. تروي المؤلّفة ليندا ديتمار، وهي إسرائيليّة-أمريكيّة، عن بحثها المستمرّ لأعوام من أجل كشف نفسها على حقيقة النكبة من خلال تتبّع الآثار الفعليّة المتبقيّة من عنفها الكارثيّ، وتسجيل تأثير هذه المهمّة المؤلمة على هويّتها يهوديّةَ وُلِدَت في فلسطين المستعمَرة بريطانيًّا عام 1939.

تأخذ السيرة القرّاء عبر طريق متعرّج وصخريّ إلى، ومن خلال، الأطلال (أو الأطلال المحتملة) للعديد من القرى المدمرّة، وأجزاء من تاريخها. يقود الطريق ديتمار والقرّاء عبر ذكرياتها الخاصّة - العديد منها مدفون منذ فترة طويلة - فتضع هذه الذكريات في سياقها الصحيح. في نقطة ما، تدرك برعب: "إنّهم شعبي... زفيكا وداني وأوزي الخاصّين بنا هم الّذين أجبروا هؤلاء القرويّين على الرحيل نيابة عنّا. نحن جميعًا في هذا معًا: أولئك منّا الّذين حاربوا، ولكن أيضًا أهلنا، وأحبّاءنا، ومعلّمينا وجيراننا وزملاءنا في الدراسة، والآن أطفالنا وأحفادنا".

 

بداية البحث 

في عام 1961، عندما كانت تبلغ من العمر 22 عامًا، غادرت ديتمار إسرائيل لإكمال الدراسات العليا في الولايات المتّحدة، وتزوّجت من أمريكيّة، واستمرّت في العيش معظم حياتها البالغة هناك، رغم الزيارات المتكرّرة لوالديها وأصدقائها في إسرائيل. في عام 2005، عَمِلَتْ أستاذة للسينما والأدب في بوسطن عندما بدأت بحثها عن النكبة على مدى عدّة أعوام. حدث توقّف طويل في العمليّة، خلاله فقدت ديتمار إرادتها في كتابة ما تعلّمته. ثمّ استأنفت وأنهت الكتابة في أواخر عام 2022، تمامًا مع بداية هزّات سياسيّة عميقة بدأت في تشويه نفوس الإسرائيليّين وأنصارهم. على الرغم من الطابع الشخصيّ للغاية، تعمل السيرة الذاتيّة كفحص رنين مغناطيسيّ روائيّ لعقل إسرائيليّ ليبراليّ يتفاعل الآن بشدّة مع آثار صامتة، ودامغة، لما حدث عام 1948.

النتيجة هي استكشاف أصيل للعديد من الأحداث الأكثر رعبًا في النكبة. يُقَدِّم للقرّاء تجربة مؤثّرة متعدّدة الطبقات تجمع بين العديد من مواقع النكبة الحزينة والمخيفة؛ أصداء الأهوال الّتي وقعت فيها؛ ذكريات ديتمار الشخصيّة لذلك الوقت ومجرى حياتها كلّها بصفتها إسرائيليّة، إضافة إلى دور أجدادها، الّذين وصلوا في القرن التاسع عشر، في إنشاء المجتمع الصهيونيّ المتحمّس؛ النفايات القاحلة لـ 75 عامًا من الإهمال والمحو التدخّليّ، والألم الّذي تتعامل معه هي وشريكتها العاطفيّة، المصوّرة الجنائيّة الأمريكيّة، عندما تواجهان الحقيقة.

في بعض الصفحات الأكثر تأثيرًا، تظهر ذكريات قديمة في أماكن زارتها ديتمار قبل عام 1948 أو بعده، دون أن تكون مدركة لتاريخ النكبة. لذا، عندما تذهب هي وديبورا، شريكتها، إلى قيسارية، لرؤية عجائب الميناء الرومانيّ القديم الّتي كشفتها ’إسرائيل‘، يتجمّد دمها عندما ترى مئذنة فلسطينيّة بين هياكل مختلفة، منها ما هو أقدم بكثير، وما هو أحدث بكثير.

جموع الزوّار لا تهتمّ للمئذنة المهجّرة، لكنّ عقل ديتمار يفيض بالذكريات الشخصيّة: "بعد وقت قصير من الحرب [1948] رأيت هذه القرية نفسها، ومسجدها، خالية من الناس ومهدّمة". في حركة متهوّرة، صعدت ديتمار إلى قمّة المئذنة حيث كانت تستطيع رؤية القرية المهجّرة. لكنّها كانت تعتقد، آنذاك، كما اعْتَقَدَ كلّ مَنْ حولها، أنّ "العرب هاجموا [اليهود]، خسروا وهربوا... بالطبع، كلّ ما تركوه كان لنا". التقط والدها صورة للمكان.


النكبة في كلّ مكان

في عام 2007، أخذت ديتمار استراحة من بحثها. ذهبت إلى الشاطئ حيث كانت عائلتها تقضي عطلاتها أيّام طفولتها. "لا نكبة" قالت لديبورا، "فقط البحر والرمال". لكن، وعندما تعثّرتا بالصدفة ببقايا مبانٍ مهدّمة، أدركتا أنّهما كانتا في موقع قرية فلسطينيّة مهجّرة هي الطنطورة (يسمّيها الإسرائيليّون ’دور‘). فجأة، "لم تعد إسرائيل تبدو كما كانت"، بل أضحت "تقع في ظلّ حيوات ممحوّة من الأرض الّتي أعاشتهم قرونًا طويلة".

ثمّ ظهرت ذكرى أخرى للطنطورة - لحظة عابرة من عام 1950 - ولم تعد حياة ديتمار وهويّتها كما كانتا. عندما غادرت عائلتها الشاطئ، رأت "نساءً وأطفالًا فقراء... محاصرين خلف سلك شائك". الآن، أدركت أنّ هؤلاء كانوا ناجين من مذبحة رجال الطنطورة - مذبحة ظلّت مخفيّة بنجاح لعقود، رغم شهادات الفلسطينيّين. مذبحة لا يزال بعض الإسرائيليّين ينكرونها إلى اليوم، حتّى في مواجهة الأدلّة الجديدة.

في بدايّة الكتاب، تروي ديتمار قصّة النكبة لفاطمة الهوّاري وآبي ناثان. وُلِدَتْ فاطمة في ترشيحا، القرية الّتي يعرفها الفلسطينيّون بـ ’عروس الجليل‘. فقدت فاطمة ساقيها في يوم زفافها في تشرين الثاني (أكتوبر) 1948. كان آبي الطيار الإسرائيليّ الّذي قصف القرية وأدّى إلى إعاقة فاطمة. عندما التقيا بعد حياة كاملة،صُوِّرَتِ اللحظة. كان آبي أيضًا في كرسيّ متحرّك، مشلول بسبب جلطة، لكنّه استمرّ في حياته ليصبح ناشطًا من أجل السلام، مشهورًا لأعوام بصفته ’صوت السلام‘، يبثّ من ’سفينة السلام‘ الّتي كان يحتفظ بها في المياه الدوليّة. في الفيلم، كان "منهارًا في كرسيّه المتحرّك"، يطلب آبي من فاطمة الغفران. بما تسمّيه ديتمار "ابتسامة تقشعرّ لها الأبدان". تقول فاطمة: لا، "حتّى وهي تربّت على يده بحنان ومواساة".

رأت ديتمار لقطات هذا اللقاء في بداية بحثها. جرى تضمينه في الوثائقيّ «عروس الجليل» (2006)، لباسل طنّوس، الّذي شاهدته في ترشيحا مع مجموعة مختلطة من اليهود والفلسطينيّين. بعد انتهاء الفيلم تلاحظ: "أتذكّر فقط شللي الخاصّ وإحساسي بالهاوية، الجروح غير الملتئمة، الّتي تفصل بيننا".

وتستمرّ في القول إنّ "ترشيحا تقف مثالًا، حكاية عن المعاناة الّتي ليس لها مثيل، وعن السياسة الّتي تتجاوز 'الصواب' و 'الخطأ' البسيطين. لكلّ شعب حقيقته الخاصّة، ومطالبه بالعدالة، لكنّها ليست متساوية أبدًا، وليست مسموعة دائمًا".

هذه لغة مزعجة. يبدو أنّها تقترب من كذبة ’الروايّة المزدوجة‘ لتاريخ إسرائيل وفلسطين الّتي يحبّها الصهاينة الليبراليّون - حيث يكون "لديك تاريخك ولدينا تاريخنا؛ دعنا نتعاطف فقط ونحاول العمل بجدّ أكثر للتوافق". باستثناء أنّ ديتمار تكشف حدود أشكال الإنكار الإسرائيليّ، عبر استدعاء ما تسمّيه "الشعور العميق بالجرح الوجوديّ الّذي صهر شعارات الصهيونيّة 'الدم والنار والانتقام'، ودمجها في سيطرة إسرائيل اللانهائيّة وتوسّعها المستمرّ على حياة وأراضي الفلسطينيّين". تضع ديتمار إصبعها على كيفيّة اعتماد الصهاينة على استثناء يهوديّ بُنِيَ على تراث من المعاناة في أراضٍ أخرى؛ من أجل تحويل الانتباه عن الدم الّذي يصرخ في أرض فلسطين.

في الواقع، يعمل التركيز المزدوج للكتاب مباشرة ضدّ النسبيّة للنظرة المزدوجة لرواية الماضي، الّتي تقوّض الهدف الكلاسيكيّ للتاريخ لاستعادة الحقيقة الفعليّة للأحداث والأوقات الماضية - الحقيقة الفعليّة الّتي يمكن إصدار الأحكام عليها (مثل أحكام جرائم الحرب بموجب القانون الدوليّ).

 

خداع الذات 

يبدو أنّ طريقة ديتمار في البحث عن الحقيقة التاريخيّة، في الواقع، كانت تقديم نفسها عيّنةً من نوع معيّن من الإسرائيليّين، أولئك الّذين يرغبون في التعامل مع الأدلّة والشهادات حول النكبة. هذا يفسّر السبب في أنّها نادرًا ما توجّهت إلى الفلسطينيّين المطّلعين لمساعدتها في تحديد مواقع وفكّ تشفير الآثار الّتي يصعب إيجادها لبعض القرى الفلسطينيّة المهجّرة. بدلًا من ذلك، وضعت نفسها وديبورا في مشقّة تعلّم كيفيّة التعرّف على التلال، وكتل الصبّار، الّتي يمكن أن تشير إلى وجود بقايا المنازل والمباني القديمة من فترة ما قبل النكبة. تمكّنتا أيضًا من التنقّل بين المواقع عن طريق الصور القديمة والإشارات الّتي تربط هذه الأنقاض بأسماء الأماكن الإسرائيليّة الموجودة على الخرائط الإسرائيليّة. ومع ذلك، استشارت ديتمار مجموعة  تذكّر النكبة «زوخروت»، والجرد الضخم الّذي جمعه وليد الخالدي للقرى والمواقع المدمّرة في كتابه «كلّ ما تبقّى» (1992).

في السياق نفسه، رفضت ديتمار مقابلة الفلسطينيّين، "رغم أنّها كانت تعرف أنّه كان من الجيّد فعل ذلك". وتقول إنّ هذا التجنّب كان "علامة على الهوّة الّتي تفصل بيننا"، وطريقتها في ’تصوير‘ "عاصفة الصمت" الّتي اجتاحت فلسطين في أعقاب عام 1948، بكلمات الكاتب الفلسطينيّ محمود الأسعد. لقد أُسْكِتَتْ صرخات الفلسطينيّين. يبدو أنّ نقطتها هي أنّها، إسرائيليّةً، لا ينبغي أن تفترض أنّ بوسعها أن تملأ هذا الصمت.

لم تكن ديتمار تسعى فقط لمعرفة حقائق 1948 (في النهاية، هناك كتب تعلّم التاريخ). كانت ترغب في مواجهة بدنيّة مع الأرض الّتي تحوي في داخلها قبور وأشباح فلسطين القديمة وسط النموّ القويّ، والبناء الزائد، وإعادة توظيف الأراضي الّذي تقوم به إسرائيل. بهذه الطريقة، أنشأت مساحة نفسيّة يمكنها فيها استجواب ذكريات ومشاعر حياة كاملة حول كونها إسرائيليّة.

 

الهوّة الدمويّة

نشأت ديتمار في فقاعة ضخمة من الإنكار، وبقيت فيها. تقدّم ديتمار للقرّاء صورًا صادقة لمدى انغماسها في الرواية الصهيونيّة. كانت معجبة، في السابق، بالعزم والتضحية الذاتيّة للروّاد اليهود والمدافعين عن إسرائيل؛ شاركت في الشعور الدراميّ المشترك الّذي ربط الإسرائيليّين معًا وأثار إعجاب اليهود في الشتات والأجانب أيضًا؛ واعتنقت المشاعر الوطنيّة والضغوط الاجتماعيّة الّتي شكّلت هويّتها وهويّة أصدقائها وعائلتها. خدمت لعامين في الجيش الإسرائيليّ، بعد أربع سنوات من التدريب النخبويّ في فرق الشباب «جادنا»، مثبّتة قوّتها بصفتها «صبرة».

بدا لها العرب غريبين وبعيدين، وربّما خطرين. علاوة على ذلك، كانت قد تعلّمت أنّ اليهود كانوا دائمًا وفي كلّ مكان يتعرّضون للاضطهاد، وكانوا في خطر. تعلّمت أنّه "في كلّ جيل ينهضون للقضاء علينا"، كما يصرّ نصّ الـ «هاغاداة» الّذي يُتْلى في كلّ عيد فصح. طوال محطّات رحلتها، تلاحظ ديتمار مشاركتها الخاصّة ’متفرّجةً –مشاركةً‘ في التمييز، والاضطهاد، والمحو الّذي فُرِض على الفلسطينيّين.

عندما تنتهي ديتمار من تشريحها الّذي لا يتزعزع لجرائم إسرائيل وأعذارها، تقول إنّ ’العذاب‘ في كتابة هذه المذكّرات كان شخصيًا، لكنّ "النقاط الّتي تربطها المذكّرات كانت مسألة سياسيّة". بالطبع، كلمة ’الوطن‘ تدلّ على الهويّة، لذا فإن الآثار الّتي ترسمها هي تلك الّتي نُقِشَتْ في أعوام عقلها الأولى ومن ثمّ تغيّرت مرّة أخرى بفعل آثار بحثها، قد خدمت نوعًا من الرقّ التالف - ورقة كُتِبَ عليها، ثمّ كُتِبَ عليها مرّة أخرى - ممّا سمح لواقع وسرديّة النكبة أن تكتب فوق، دون أن تمحو واقعها وسرديّتها الإسرائيليّين.

في هذه العمليّة أدركت مدى عمق ’الهوّة‘ الّتي تفصل بين الفلسطينيّين المجروحين والمظلومين عن الإسرائيليّين الّذين يواصلون ظلمهم وجرحهم، والّذين تشكّل الهوّة لهم خندقًا واقيًا. أيضًا، فتحت رحلة البحث عن النكبة الخاصّة بها هوّة بين ذكريات حياتها والصورة الأكثر اكتمالًا لنفسها الّتي نشأت من وعيها بالنكبة.

هذه المذكّرات الهادئة الصوت تصمت عمّا تعتقد ديتمار أنّه سيحدث للإسرائيليّين والفلسطينيّين مستقبلًا، أو كيف يمكنهم تجاوز هذه الهوّة. يبدو هذا التردّد مناسبًا، بالنظر إلى ’عاصفة الصمت‘ الّتي تحمّلها الفلسطينيّون. ربّما يعبّر صمت ديتمار أيضًا عن رفض البحث عن تبرئة فرديّة من ماضيها الإسرائيليّ المذنب، الأمر الّذي سيفصلها عن شعبها الّذي لا يزال يتمسّك بأساطيره القوميّة.

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميًّا.